روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العين حق ولو كان شئ سابق القدر ، لسبقته العين " .
وفي صحيحه أيضاً عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة .
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العين حق " .
وفي سنن أبي داود عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان يؤمر العائن فيتوضأ ، ثم يغتسل منه المعين .
وفي الصحيحين عن عائشة قالت : أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أمر أن نسترقي من العين .
وذكر الترمذي ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة الزرقي ، أن أسماء بنت عميس ، قالت : يا رسول الله ! إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم ؟ فقال : " نعم فلو كان شئ يسبق القضاء لسبقته العين " قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
وروى مالك رحمه الله : عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، قال : " رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل ، فقال : والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ! قال : فلبط سهل ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامراً ، فتغيظ عليه وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت اغتسل له ، فغسل له عامر وجهه ويديه ، ومرفقيه وركبتيه ، وأطراف رجليه ، وداخلة إزاره في قدح ، ثم صب عليه ، فراح مع الناس " .
وروى مالك رحمه الله أيضاً عن محمد بن أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه هذا الحديث ، وقال فيه : " إن العين حق ، توضأ له " . فتوضأ له .
وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه مرفوعاً " العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر ، لسبقته العين ، وإذا استغسل أحدكم ، فليغتسل " ووصله صحيح .
قال الزهري : يؤمر الرجل العائن بقدح ، فيدخل كفه فيه ، فيتمضمض ، ثم يمجه في القدح ، ويغسل وجهه في القدح ، ثم يدخل يده اليسرى ، فيصب على ركبته اليمنى في القدح ، ثم يدخل يده اليمنى ، فيصب على ركبته اليسرى ، ثم يغسل داخلة إزاره ، ولا يوضع القدح في الأرض ، ثم يصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة .
والعين : عينان : عين إنسية ، وعين جنية ، فقد صح عن أم سلمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة ، فقال : " استرقوا لها ، فإن بها النظرة " .
قال الحسين بن مسعود الفراء : وقوله : سفعة . أي نظرة ، يعني : من الجن ، يقول : بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ من أسنة الرماح .
ويذكر عن جابر يرفعه : " إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر " .
وعن أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان ، ومن عين الإنسان .
فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين ، وقالوا : إنما ذلك أوهام لا حقيقة له ، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل ، ومن أغلظهم حجاباً ، وأكثفهم طباعاً ، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس . وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها ، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ، ولا تنكره ، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين .
فقالت طائفة : إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة ، انبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين ، فيتضرر . قالوا : ولا يستنكر هذا ، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان ، فيهلك ، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك ، فكذلك العائن .
وقالت فرقة أخرى : لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية ، فتتصل بالمعين ، وتتخلل مسام جسمه ، فيحصل له الضرر .
وقالت فرقة أخرى : قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلاً ، وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم ، وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب ، وخالفوا العقلاء أجمعين .
ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة ، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة ، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام ، فإنه أمر مشاهد محسوس ، وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه ، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه ، وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه ، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح ، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها ، وليست هي الفاعلة ، وإنما التأثير للروح ، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها ، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بيناً ، ولهذا أمر الله - سبحانه - رسوله أن يستعيذ به من شره ، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية ، وهو أصل الإصابة بالعين ، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة ، وتقابل المحسود ، فتؤثر فيه بتلك الخاصية ، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى ، فإن السم كامن فيها بالقوة ، فإذا قابلت عدوها ، انبعثت منها
قوة غضبية ، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية ، فمنها ما تشد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين ، ومنها ما تؤثر في طمس البصر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر ، وذي الطفيتين من الحيات : " إنهما يلتمسان البصر ، ويسقطان الحبل " .
ومنها ، ما تؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به ، لشدة خبث تلك النفس ، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة ، والتأثير غير موقوف على الإتصالات الجسمية ، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة ، بل التأثير يكون تارة بالإتصال ، وتارة بالمقابلة ، وتارة بالرؤية ، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه ، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات ، وتارة بالوهم والتخيل ، ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية ، بل قد يكون أعمى ، فيوصف له الشئ ، فتؤثر نفسه فيه ، وإن لم يره ، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية ، وقد قال تعالى لنبيه : " وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر " [ القلم : 51 ] . وقال : " قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد " ، فكل عائن حاسد ، وليس كل حاسد عائناً ، فلما كان الحاسد أعم من العائن ، كانت الإستعاذة منه استعاذة من العائن ، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة ، فإن صادفته مكشوفاً لا وقاية عليه ، أثرت فيه ، ولا بد ، وإن صادفته حذراً شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام ، لم تؤثر فيه ، وربما ردت السهام على صاحبها ، وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء ، فهذا من النفوس والأرواح ، وذلك من الأجسام والأشباح . وأصله من إعجاب العائن بالشئ ، ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة ، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين ، وقد يعين الرجل نفسه ، وقد يعين بغير إرادته ، بل بطبعه ، وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني ، وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء : إن من عرف بذلك ، حبسه الإمام ، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت ، وهذا هو الصواب قطعاً .
فصل
والمقصود : العلاج النبوي لهذه العلة ، وهو أنواع ، وقد روى أبو داود في سننه عن سهل بن حنيف ، قال : مررنا بسيل ، فدخلت ، فاغتسلت فيه ، فخرجت محموماً ، فنمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " مروا أبا ثابت يتعوذ ، قال : فقلت : يا سيدي ! والرقى صالحة ؟ فقال : لا رقية إلا في نفس ، أو حمة أو لدغة " .
والنفس : العين ، يقال : أصابت فلاناً نفس ، أي : عين . والنافس : العائن . واللدغة - بدال مهملة وغين معجمة - وهي ضربة العقرب ونحوها .
فمن التعوذات والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين ، وفاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، ومنها التعوذات النبوية .
نحو : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق .
ونحو : أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة .
ونحو : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاورهن بر ولا فاجر ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل ، والنهار ، ومن شر طوارق الليل إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن .
ومنها : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون .
ومنها : اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم ، وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم ، اللهم إنه لا يهزم جندك ، ولا يخلف وعدك ، سبحانك وبحمدك .
ومنها : أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شئ أعظم منه ، وبكلماته التامات التي لا يجاورهن بر لا فاجر ، وأسماء الله الحسنى ، ما علمت منها وما لم أعلم ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره ، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، إن ربي على صراط مستقيم .
ومنها : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، عليك توكلت ، وأنت رب العرش العظيم ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، أعلم أن الله على كل شئ قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شئ علماً ، وأحصى كل شئ عدداً ، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ، وشر الشيطان وشركه ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم .
وإن شاء قال : تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو ، إلهي وإله كل شئ ، واعتصمت بربي ورب كل شئ ، وتوكلت على الحي الذي لا يموت ، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله ونعم الوكيل ، حسبي الرب من العباد ، حسبي الخالق من المخلوق ، حسبي الرازق من المرزوق ، حسبي الذي هو حسبي ، حسبي الذي بيده ملكوت كل شئ ، وهو يجير ولا يجار عليه ،
حسبي الله وكفى ، سمع الله لمن دعا ، ليس وراء الله مرمى ، حسبي الله لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم .
ومن جرب هذه الدعوات والعوذ ، عرف مقدار منفعتها ، وشدة الحاجة إليها ، وهي تمنع وصول أثر العائن ، وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها ، وقوة نفسه ، واستعداده ، وقوة توكله وثبات قلبه ، فإنها سلاح ، والسلاح بضاربه .
فصل
وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين ، فليدفع شرها بقوله : اللهم بارك عليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف : " ألا بركت " أي : قلت : اللهم بارك عليه .
ومما يدفع به إصابة العين قول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، روى هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه كان إذا رأى شيئاً يعجبه ، أو دخل حائطاً من حيطانه قال : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله .
ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم التي رواها مسلم في صحيحه " باسم الله أرقيك ، من كل شئ يؤذيك ، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك ، باسم الله أرقيك " .
ورأى جماعة من السلف أن تكتب له الآيات من القرآن ، ثم يشربها . قال مجاهد : لا بأس أن يكتب القرآن ، ويغسله ، ويسقيه المريض ، ومثله عن أبي قلابة . ويذكر عن ابن عباس : أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن ، ثم يغسل وتسقى . وقال أيوب : رأيت أبا قلابة كتب كتاباً من القرآن ، ثم غسله بماء ، وسقاه رجلاً كان به وجع .
فصل
ومنها : أن يؤمر العائن بغسل مغابنه وأطرافه وداخلة إزاره ، وفيه قولان . أحدهما : أنه فرجه . والثاني : أنه طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده من الجانب الأيمن ، ثم يصب على رأس المعين من خلفه بغتة ، وهذا مما لا يناله علاج الأطباء ، ولا ينتفع به من أنكره ، أو سخر منه ، أو شك فيه ، أو فعله مجرباً لا يعتقد أن ذلك ينفعه .
وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها البتة ، بل هي عندهم خارجة عن قياس الطبيعة تفعل بالخاصية ، فما الذي ينكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواص الشرعية ، هذا مع أن في المعالجة بهذا الإستغسال ما تشهد له العقول الصحيحة ، وتقر لمناسبته ، فاعلم أن ترياق سم الحية في لحمها ، وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها ، وإطفاء ناره بوضع يدك عليه ، والمسح عليه ، وتسكين غضبه ، وذلك بمنزلة رجل معه شعلة من نار ، وقد أراد أن يقذفك بها ، فصببت عليها الماء ، وهي في يده حتى طفئت ، ولذلك أمر العائن أن يقول : اللهم بارك عليه ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذي هو إحسان إلى المعين ، فإن دواء الشئ بضده . ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد ، لأنها تطلب النفوذ ، فلا تجد أرق من المغابن ، وداخلة الإزار ، ولا سيما إن كان كناية عن الفرج ، فإذا غسلت بالماء ، بطل تأثيرها وعملها ، وأيضاً فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص .
والمقصود : أن غسلها بالماء يطفئ تلك النارية ، ويذهب بتلك السمية .
وفيه أمر آخر ، وهو وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها تنفيذاً ، فيطفئ تلك النارية والسمية بالماء ، فيشفى المعين ، وهذا كما أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها ، خف أثر اللسعة عن الملسوع ، ووجد راحة ، فإن أنفسها تمد أذاها بعد لسعها ، وتوصله إلى الملسوع . فإذا قتلت ، خف الألم ، وهذا مشاهد . وإن كان من أسبابه فرح الملسوع ، واشتفاء نفسه بقتل عدوه ، فتقوى الطبيعة على الألم ، فتدفعه .
وبالجملة : غسل العائن يذهب تلك الكيفية التي ظهرت منه ، وإنما ينفع غسله عند تكيف نفسه بتلك الكيفية .
فإن قيل : فقد ظهرت مناسبة الغسل ، فما مناسبة صب ذلك الماء على المعين ؟ قيل : هو في غاية المناسبة ، فإن ذلك الماء ماء طفئ به تلك النارية ، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل ، فكما طفئت به النارية القائمة بالفاعل طفئت به ، وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائن ، والماء الذي يطفأ به الحديد يدخل في أدوية عدة طبيعية ذكرها الأطباء ، فهذا الذي طفئ به
نارية العائن ، لا يستنكر أن يدخل في دواء يناسب هذا الداء . وبالجملة : فطب الطبائعية وعلاجهم بالنسبة إلى العلاج النبوي ، كطب الطرقية بالنسبة إلى طبهم ، بل أقل ، فإن التفاوت الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم ، وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية بما لا يدرك الإنسان مقدراه ، فقد ظهر لك عقد الإخاء الذي بين الحكمة والشرع ، وعدم مناقضة أحدهما للآخر ، والله يهدي من يشاء إلى الصواب ، ويفتح لمن أدام قرع باب التوفيق منه كل باب ، وله النعمة السابغة ، والحجة البالغة .
فصل
ومن علاج ذلك أيضاً والإحتراز منه ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه ، كما ذكر البغوي في كتاب شرح السنة : أن عثمان رضي الله عنه رأى صبياً مليحاً ، فقال : دسموا نونته ، لئلا تصيبه العين ، ثم قال في تفسيره : ومعنى : دسموا
نونته : أي : سودوا نونته ، والنونة : النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير .
وقال الخطابي في غريب الحديث له عن عثمان : إنه رأى صبياً تأخذه العين ، فقال : دسموا نونته . فقال أبو عمرو : سألت أحمد بن يحيى عنه ، فقال : أراد بالنونة : النقرة التي في ذقنه . والتدسيم : التسويد . أراد : سودوا ذلك الموضع من ذقنه ، ليرد العين . قال : ومن هذا حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم ، وعلى رأسه عمامة دسماء . أي : سوداء . أراد الإستشهاد على اللفظة ، ومن هذا أخذ الشاعر قوله :
ما كان أحوج ذا الكمال إلى عيـــب يـوقيــه مـن العين
فصل
ومن الرقى التي ترد العين ما ذكر عن أبي عبد الله الساجي ، أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة ، وكان في الرفقة رجل عائن ، قلما نظر إلى شئ إلا أتلفه ، فقيل لأبي عبد الله : إحفظ ناقتك من العائن ، فقال : ليس له إلى ناقتي سبيل ، فأخبر العائن بقوله ، فتحين غيبة أبي عبد الله ، فجاء إلى رحله ، فنظر إلى الناقة ، فاضطربت وسقطت ، فجاء أبو عبد الله ، فأخبر أن العائن قد عانها ، وهي كما ترى ، فقال : دلوني عليه ، فدل ، فوقف عليه ، وقال : بسم الله ، حبس حابس ، وحجر يابس ، وشهاب قابس ، رددت عين العائن عليه ، وعلى أحب الناس إليه ، " فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " [ الملك : 3 ، 4 ] فخرجت حدقتا العائن ، وقامت الناقة لا بأس بها .